إن من السمات الطبيعية للمجتمعات البشرية هي تميزها بتعدد الأفكار واختلاف التوجهات.
وحينما أمر الإسلام مجتمع المؤمنين بأن يتحدوا فيما بينهم، وأن يعتصموا بحبل الله جميعا ولا يتفرقوا بدليل قول الله (( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا )) ؛ فلم يكن معنى ذلك إجبارهم على تطابق الآراء والمواقف فيما بينهم تماما.
لأن ذلك أمر صعب التحقق إن لم يكن متعذر الحصول.
فمجتمع المؤمنين مجتمع بشري، وبالتالي يحدث فيه ما يحدث في سائر التجمعات البشرية من تعدد الأفكار والتوجهات واختلاف الرأي في المسائل الدينية والدنيوية. لكن ذلك لا ينبغي أن يدعو إلى الخصومة و القطيعة فيما بينهم، ولا إلى أن يتبرأوا من بعضهم البعض
حكم اختلاف الرأي
إذن الاختلاف في الرأي جائز شرعا بل ومستساغ.
يقول الله: ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ))
بدليل حديث صلاة العصر.
فروى البخاري ومسلم عن عبدالله بن عمر قَالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَومَ الأحْزَابِ: لا يُصَلِّيَنَّ أحَدٌ العَصْرَ إلَّا في بَنِي قُرَيْظَةَ. فأدْرَكَ بَعْضُهُمُ العَصْرَ في الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا نُصَلِّي حتَّى نَأْتِيَهَا، وقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، لَمْ يُرِدْ مِنَّا ذلكَ، فَذُكِرَ ذلكَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَلَمْ يُعَنِّفْ واحِدًا منهمْ.
وفي فتح الباري للحافظ ابن حجر: قال السهيلي وغيره: في هذا الحديث من الفقه أنه لا يعاب على من أخذ بظاهر حديث أو آية ولا على من استنبط من النص معنى يخصصه، وفيه أن كل مختلفين في الفروع من المجتهدين مصيب. انتهى
أسباب إختلاف الرأي
1- تفاوت المعرفة بين الناس:
إن تفاوت المعرفة في مختلف الموضوعات ينتج عنه بطبيعة الحال تفاوت في الرأي والحكم على تلك المسائل، وحينما لا يكون هناك تساوٍ في مستوى المعلومة والمعرفة فيترتب على ذلك تلقائيا اختلاف في الرأي والموقف.
فقد يتضح لك موضوع ما وهذا لا يعني أن نفس درجة الوضوح تكون عند الطرف الآخر.
لقد تحدث القرآن الكريم في محكم آياته عن حادثة نبي من أنبيائه العظام مع ولي من أوليائه الصالحين، ويقال أنه نبي، وهو الخضر مع نبي الله موسى.
وقد اختلف الاثنان في بعض المسائل، لا لشيء سوى لأن الخضر كان أكثر اطلاعا ومعرفة بعدة مسائل لم يكن الله قد أطلع عليها نبيه موسى.
وقد أخبر الخضر النبي موسى بتلك القاعدة عند اصطحابه: ﴿قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً﴾.
فالخضر كان يقول أنا مطلع على تلك القضايا عن طريق الغيب وأنت يا موسى لم تطلع عليها، ولذلك سوف تستنكر ما أقوم به بسبب تفاوت المعرفة فيما بيننا في هذه المسائل.
﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً﴾، ومرة أخرى ﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً﴾.
ولنا أن نتصور المشهد هنا. هناك نبي يعترض على تصرف ولي، مع أن كليهما ينطلق من منطلق رباني واحد. ومرد ذلك هو اطلاع الخضر على بعض الأمور التي لم يتسنى لموسى الاطلاع عليها، فالاختلاف هنا جاء بسبب اختلاف المعرفة.
2- اختلاف زاوية النظر:
وقد يكون اختلاف الرأي في بعض الأحيان بسبب اختلاف زاوية النظر للموضوع.
فأحد الناس ينظر لموضوع ما من زاوية، فيما ينظر له آخر من زاوية أخرى، وهنا يختلف الرأي والموقف.
وتذكر في هذا الصدد قصة لعلها واقعية وهي مؤثرة ومعبرة.
ومفادها أن معلمة كانت تعلم تلاميذها مادة الرياضيات وتحديدا في مسائل الجمع.
فسألت أحد تلامذتها: إذا أعطيتك تفاحة وتفاحة وتفاحة فكم تفاحة تكون عندك؟ قال بعد تفكير: أربع تفاحات.
فتعجبت المعلمة وأعادت السؤال. فكرر الجواب نفسه.
ثم قالت له: إذا أعطيتك برتقالة وبرتقالة وبرتقالة، كم يكون عندك؟ قال: ثلاث برتقالات.
فأعادت المعلمة السؤال حول عدد التفاحات، فأصر التلميذ على جوابه بأنها أربع تفاحات.
وحين سألت الولد عن تفسير ذلك؛ قال: أمي قد أعطتني تفاحة لآكلها في المدرسة، و أنتي أعطيتني ثلاث تفاحات فيكون الناتج أربع.
هنا أدركت المعلمة الزاوية التي ينظر منها هذا التلميذ لهذه المسألة.
3- اختلاف الأجواء النفسية:
يأتي اختلاف الرأي أحيانا نتيجة اختلاف الأجواء النفسية التي يعيش فيها كل طرف.
ويتأتى ذلك عندما يعيش شخص ما ضمن أجواء معينة فتتكون لديه حالة الاطمئنان إلى موقف معين، فيما قد لا تتوفر ذات الأجواء لطرف آخر.
ولذلك يتحدث القرآن الكريم عن الذين لا يستجيبون لدعوة الأنبياء فلا يصفهم جميعا بالجحود، بل يقول تعالى: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾.
ومضمون ذلك بأن الأمور لم تتضح لهؤلاء بما يكفي مما جعلهم يعرضون عن إتباع الحق. أو أن هؤلاء عندهم سابق الإعراض النفسي عن القائلين بالحق؛ ولذلك هذا جعلهم مقصرين في تعلم الحق والاحاطة به.
((وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم))
إذن الإعتراض ليس على القرآن؛ إنما على المكانة الاجتماعية لهذا الشخص الذي نزل عليه القرآن. فأصبح هناك عامل نفسي أدى لهذا الإختلاف.
وهؤلاء لا يصدق على كل واحد منهم أنه اطلع على الحقيقة وجحدها وأنكرها، مع أنهم قد يحاسبون على التقصير وعدم إقبالهم على معرفة الحقيقة.
4- جهل المختلفين بحقيقة المختلف عليه أصلا:
يأتي اختلاف الرأي أحيانا بسبب الجهل بالرأي المختلف عليه من الأساس.
فتجد شخص يتكلم في مسألة ؛ وتجد الآخر يرد على مسألة أخرى.
أفضل طريقة هي التصرف منذ البداية بالتحديد الدقيق لنقطة الخلاف قبل الإغراق بوجهات النظر.
وهناك طرق عدة لتحديد أسباب المشكلات. أذكر منها على سبيل المثال تقنية “الخمس لماذات”.
وهي من تطوير شخص ياباني اسمه ساكيشي تويودا … وتعمل بهذه النظرية كبرى الشركات.
وفكرة النظرية هي حينما نواجه مشكلة معينة؛ نسأل “لماذا” خمس مرات متتالية ومتسلسلة.
مثال: هناك شخص تجاوز إشارة المرور الحمراء.
1-لماذا تجاوز الإشارة الحمراء؟ لأنه تأخر عن العمل.
2-لماذا تأخر عن العمل؟ لأنه استيقظ متأخرا.
3-لماذا استيقظ متأخرا؟ لأنه لم يسمع منبه التليفون.
4-لماذا لم يسمع منبه التليفون؟ لأن الهاتف أفرغ شحن البطارية.
5-لماذا أفرغ الهاتف شحن البطارية؟ لأن صاحبنا نسي أن يضعه على الشاحن.
إذن موضع المشكلة وسببها الرئيسي هو عدم وضع الهاتف في الشاحن.
إذن حل المشكلة هو: أن يضع يحرص على وضع الهاتف في الشاحن قبل النوم أو استخدام منبه لا يعتمد على شاحن… الخ.
ضوابط إختلاف الرأي وآدابه
1- نسيان قاعدة «إما أن تكون معي أو ضدي» فهناك فرق كبير بين التفهم و الإلزام.
أي عدم الربط بين المحبة وبين الاختلاف في الرأي.
ليس معنى أنني مختلف معك أنني أكرهك و أنني خائن أو عميل أو ارهابي. يجب أن تتخلى تماما عن هذه العقلية الرجعية.
و ليس معنى أنني متفهم وجهة نظرك؛ أنه لابد لي أن أسوق لها أو أدعو بها غيري.
نحن نعيش في مجتمع واحد. هذا المجتمع قرر تفهم وجهة نظري و وجهة نظرك. وقرر أن يكون هناك مساحة للعيش معا. وقرر أنه لا يضر طرف الطرف الآخر.
لكن لا يحق للمجتمع بعد ذلك أن يلزم طرف بالتمثيل والتشبيه بالطرف الآخر بحجة التعايش.
فالتعايش هو احترام متبادل وليس تشابه وتقمص متبادل.
إن أجبرت أحدا على التشبه بأحد؛ فأنت تنتقل من مبدأ التعايش الفكري الى مبدأ الإرهاب الفكري. وهذا غير مقبول على الإطلاق.
2- عدم الربط بين القائل والقول.
فالحكمة ضالة المؤمن لا يضره ممن أخذها؛ أنى وجدها فهو أولى بها.
فلا تتقبل الفكرة فقط لمجرد أن فلانا الذي تحبه قالها. ولا تنكر الفكرة لمجرد أن فلانا الذي تبغضه قالها.
كن وقافا على الحق وليس على الأشخاص.
3- الإصغاء للآخر.
غالباً ما يتملكنا الحماس للدفاع عن آرائنا بشراسة ونرفض الاستماع إلي الرأي الآخر، لكن لا يجب تجاهل حديث الشخص الذي تجادله. لكن في كل جدل هناك طرفان على الأقل، وبالاستماع إلى الآخر فإنك تكتسب معرفة ودراية وتصقل رأيك وتحسنه.
4- محاولة التعاطف والتفهم
علينا البدء من نقطة التشابه بيننا وبين الأشخاص الذين يختلفون معنا في الرأي. يجب التفكير من منظورهم.
5- إعادة ما قاله الآخر
تردد ما قاله الآخر للتأكد مما كان يقوله، حتى يقول لك:(نعم هذا ما قصدتُ بالضبط)
هذا النوع من إعادة الفكرة بين الطرفين يجنب أطراف النقاش أي سوء تفاهم
6- التفكير مليّاً بموضوع النقاش
إذا كنا لا نتفق على القيم الأساسية، فلا يمكننا الخوض في نقاش.
قد تختلفان على نوع الجبنة التي تريدان شرائها، لكن إذا لم يكن الأساس أن الطرفين راغبان في الجبن، لن تصلا إلى نتيجة.
لذلك لابد أن نحدد موضوع النقاش حتى لا يتم التطرق لمواضيع خلافية أخرى تؤجج الخلاف رغم أنها ليست ذات صلة.
7- عدم شخصنة الخلاف
هدفك المناقشة وليس الشخص الذي تناقشه. يمكن معرفة الشخص نفسه والبحث عن دوافعه وذلك للرد عليه وليس لجعل الشخص نفسه هو موضوع النقاش.
8- المنطقية وليس العاطفية
فهل هذا الكلام منطقي وصحيح؟ بغض النظر عن أن هذا الكلام أحبه أو لا أحبه. هذا الشخص أحبه أو لا أحبه.
فلابد لنا من أن نحذر من الوقوع فريسة العواطف المسبقة سواء الايجابية او السلبية.
9- التقبّل إن كنت على خطأ
وكما يقول الإمام الشافعي: قولي صحيح يحتمل الخطأ. و قولك خطأ يحتمل الصواب.
10- التحلي باللباقة عند الفوز
طريقة معاملة الآخرين عندما نفوز عليهم، موضوع في غاية الأهمية. فالقدرة على الاستيعاب لا يعني احتواء من يشبهنا في الآراء، بل استيعاب من يخالفونا في الرأي.
الخلاصة،،،
دعونا نعبر بحرية عن آرائنا باحترام متبادل دون أن نحمل هم المشاحنات الناتجة عن ذلك.
فيديو
صوت
توضيح هام:
لا يعني نقلي عن هذه المصادر وغيرها أنني متبني أفكار هذه المواقع أو أنني موافق على جميع الأفكار الواردة في مقالاتهم التي نقلت منها أو التي لم أنقل منها. أنا فقط نقلت الجزئية التي أوافق عليها، فالحكمة ضالة المؤمن لا يضره ممن أخذها.
ذكري للمصادر هو من باب الأمانة العلمية ، حيث قد ساعدتي هذه المصادر على اتضاح صورة الموضوع وإيصالة للقارئ/ـة.